-->

اخر الاخبار

جاري التحميل ...

عمر المختار


الشيخ الاسد رحمه الله ( عمر المختار )


ناهز الخمسين من عمره عندما شرعت ايطاليا في احتلالها لليبيا، والسبعين عندما اعُدم. فسيرة 
الشيخ عمر المختار حافلة بالكثير .. وتعجز أقلام الكُتاب أن تكتب عشر معشار مناقبه أوجهاده أوأثره لعدة أسباب منها كثرة المعارك التي خاضها. فيقول غراتسياني "وقعت بين جنودنا وعمر المختار اكثر من 277 معركة في مدة لا تتجاوز 21 شهراً 
وهي المدة التي تبتدئ بتولي غراتسياني القيادة في برقة وتنتهي باستشهاد عمر المختار. ومجمل المعارك التي شهدها عمر المختار خلال العشرين سنة من القتال العنيف تفوت 1000 معركة.ولد عمر المختار سنة 1862م بمنطقة البطنان الصحراوية القريبة من الحدود المصرية. وتربى تربية البدوفي مضارب قبيلة المنفة. وقبيلته هذه من قبائل المرابطين، الذين عرفوا تاريخياً برباطهم على ثغور دار الإسلام وحمايته. ويتم في صغر سنه، ولكن كفله الشيخ حمد الغرياني الذي رباه مع ابنه الشارف الغرياني في ظل تعاليم
 الطريقة لسنوسية. وكذلك تربية البدو التي كان لها الأثر الأكبر في تكوينه الشخصي، فنشأ في بيت عز وكرم بعيداً 

عن أخلاط المدن ونقائصها، تحوطه شهامة العرب وحرية البادية، وحوله من مظاهر الفروسية ودواعي الاعتزاز بالنفس ما بعث في تلك النفس الكبيرة حب التضحية والأنفة من الخضوع إلي من لم يجعل له دينه سلطاناً عليه. وتلقى تعليمه الأولي بمعهد الجغبوب على كبار علماء ومشايخ السنوسية في مقدمتهم الإمام السيد المهدي السنوسى قطب الحركة السنوسية، فدرس اللغة العربية والعلوم الشرعية وحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، ولكنه لم يكمل تعليمه كما تمنى. وظهرت عليه علامات النجابة ورزانة العقل،، فاستحوذ على اهتمام ورعاية أستاذه السيد لمهدي السنوسى مما زاده رفعة وسمو، فتناولته الألسن بالثناء بين العلماء ومشايخ القبائل وأعيان المدن حتى قال فيه السيد المهدي واصفاً إياه "لوكان عندنا عشرة مثل عمر المختار لاكتفينا بهم". فقد وهبه الله تعالى ملكات منها جشاشة صوته البدوي وعذوبة لسانه واختياره للألفاظ المؤثرةالمؤثرة في فن المخاطبة وجاذبية ساحرة لدرجة لسيطرة على مستمعيه وشد انتباههم، فيصفه عدوه اللدود غراتسياني "وقد ظهرت عليه في هذه الفترة علامات الشدة والصراحة، فكان كلامه قوياً كأنه آمر يلقي أوامره لتابعيهأناطه السيد المهدي بكثير من المهام، أبرزها مشيخة زاوية القصور في عام 1895م، وهذه الزاوية تقع في ارض قبيلة العبيد ببرقة الحمراء، وعرفت هذه القبيلة بتمردها وصعوبة مراسها وعدم خضوعها لأي سلطان، ولكن سرعان ما نمت عنده مهارات منها معرفة أنساب القبائل وسبر كل واحدة منها في التقاليد والعادات وألم بمواطنها وأجاد فض المنازعات ووأد ثاراتها التاريخية في كياسة وفطنة، مما اكسبه شبكة من الارتباطات مع شيوخ ووجهاء قبائل برقة التي كان لها الدور الحاسم في تسلمه قيادة الجهاد فيما بعد. والشيء بالشيء يذكر، فقد استطاع عمرالمختار أن يقود قبيلة العبيد التي لعبت دوراً رئيسياً في الجهاد، وضحت بكثير من شبابها وشيبها في مسيرة الجهاد الخالدة سطرها لها تاريخ ليبيا، وفي مقدمة هذه القبيلة شيخها سعيد جربوع الذي لم يكتف بقتال الطليان في ليبيا ولكن عندما هاجر الى مصر لم يقعد هنالك مهاجراً بل توجه والتحق بكتائب المجاهدين في فلسطين الحبيبة يقارع مع عدد من الليبيين والفلسطينيين عصابات اليهود الصهاينة. إن نجاحه في زاوية القصور وانصياع القبائل لسلطانه الاجتماعي والسياسي سلط عليه مزيداً من الأضواء، فعندما قرر السيد المهدي نقل عاصمته الروحية والسياسية إلي قروفي تشاد اصطحب معه عمر المختار من بين قادته ومستشاريه الأفذاذ سنة 1899م، وعندما اعتدت فرنسا على تشاد انتفضت الزوايا السنوسية للجهاد ضد الصليبية الفرنسية لا سيما بعد اعتدائها على هذه الزوايا وتدميرها، وكان الشيخ عمر المختار قد عين شيخاً لزاوية كلك، فبدأ شيخنا في شحذ الهمم وكان ممن لبى ونادى بالجهاد ضد فرنسا وأبلى بلاءً حسناً ؛ ويقول المؤرخون إن تصدى المسلمين الليبيين والتشاديين لفرنسا عطل مخططها الاستعماري وأعاقه حتى شوهه. ومن القبائل الليبية التي قاتلت الفرنسيس بضراوة الزوية وأولاد سليمان والمجابرة والمغاربة والقذاذفة وورفلة التي ربطتها وشائج العقيدة والدم مع اخوتهم في تشاد. ولكن بعد تراجع المجاهدين في تشاد أمام الزحف الفرنسي الجارف، وبيعة السيد احمد الشريف على سجادة الإمامة للحركة السنوسية اثر وفاة عمه السيد المهدي، كُلف عمر المختار أمر زاوية القصور للمرة الثانية عام 1906م لإدارة شؤون قبيلة العبيد التي قابلت طلب الحكومة العثمانية في جباية الضرائب بالرصاص. وبالفعل انصاعت القبيلة لقيادة عمر المختار وبذلك تحاشى الصدام مع السلطة المركزية في طرابلس الممثلة للخلافة الإسلامية حتى سنة 1911م عندما غدرت إيطاليا بالليبيين وفاجأتهم بالعدوان، وهي نقطة التحول في حياة الشيخ عمر المختار البطولية، وملحمة جهادية نادرة من نوعها في ذاك القرن.وببدء القصف الإيطالي للمدن الليبية والنزول على السواحل، أعلن السيد احمد الشريف التعبئة والنفير في رسالة حثهم فيها على الجهاد والتصدي للصليبية الأوربية ومنذراً كل متقاعس أومتعاون أومن تسول له شياطينه فقال: "الحمد لله العزيز الجبار، والصلاة والسلام على من أطال عز الدين، وعلى آله الأنصار … واعلموا إن الآجل محتوم، فما خائض المعركة ميت إلا به … إن الموت في الجهاد هومنتهى أرب اللبيب … واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف … ولا تصدنكم عن جهادكم كثرة عدد ولا عِدد، فإن قوة الأيمان يتلاشى في جنبها كل عدد، فجموعهم المعسكرة مكسرة، وعزماتهم المؤنثة مصغرة، وإن كانت ذواتهم مذكرة مكبرة، وقد وعد الله ناصره بالنصر والتثبيت، والعدوالتعس والتثتيت ولا ترتدوا على أدباركم، لضعف من بعض أمرائكم، فإن المرء لوجاهد في الله وحده لصدق وعده، وأعز جنده، بل اهدوا ولوفرة، وأثبتوا ولومرة، فقد كان في الغزوات يتداول الرايات الجماعات، فكلما حي أمير أخذها الأخر لينال المرام … فلا تكسرن قلوبكم لقلة عدد، ولا تجبنوا لضعف مدد، بل ليقاتل أحدكم ولووحده، منتظراً بالنصر وعده، فقد قال تعالى "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله" والأحاديث في الترهيب من ترك الجهاد والترغيب فيه لا يحاط بها كثرة … أي الواجب عليكم من جهاد الأعداء والإغلاظ عليهم وإقامةالإسلام ونصرة الدين وآله وإعلاء كلمة الله وإذلال الكفر وأهله … "وبهذه المعنويات انطلق عمر المختار في استنفار القبائل، فبذره الذي بذره في قبيلة العبيد أثمر وأينع، فلبت هذه القبيلة نداء الجهاد فزحفت بقضها وقضيضها إلي الخطوط الأمامية مع سائر القبائل وقاتلوا قتال الأبطال. واستمر عمر المختار في سجال مع الطليان تارة في برقة البيضاء وتارة في الجبل الأخضر، حتى أًذن بقتال الإنجليز بمصر. فانتقلت جحافل المجاهدين الليبيين والضباط العثمانيين تحت إمرة السيد أحمد الشريف ودخلوا مصر وتلاحم الاثنان، ولكن انكسر جيش المسلمين مما انعكس سلباً على الجبهة الداخلية في حربهم للطليان. وبحلول عام 1923م سقطت فيه الجبهة الغربية أمام المد الإيطالي، ولكن استمرت فزان وبرقة في الصمود، واتجه الشيخ عمر المختار ورفاقه إلي الجبل الأخضر، وشكلوا هيئة قيادية جديدة سميت بـ"هيئة الجبل" ترأسها الشيخ عمر المختار بعضوية كل من يوسف بورحيل وعبد الحميد العبار وعصمان الشامي والفضيل بوعمر. وأعيد ترتيب الأدوار القبلية في تصديها للعدو، وكان عمر المختار دائماً في المقدمة حتى قال الشيخ عبدالحميد العبار "كان (عمر المختار) يُتعبنا بقتاله معنا لأننا كنا نخاف عليه من أن يمسسه سوء أكثر من خوفنا من العدو"، ولكنه أرعب أعداءه فنعتوه بأوصاف غريبة، فقالوا بأنه يستطيع الاختفاء فلا تراه الأعين وبأن جسمه لا ينفذ منه الرصاص وغيرها من الصفات التي يراها الغرب في أبطاله الأسطوريين.وقرعت إيطاليا طبول السلام زيفاً، واستجاب الشيخ لنداء السلام وحاول التفاهم معهم على صيغة ليخرجوا من دوامة الدمار. فذهب كبيرهم للقاء عمر المختار ورفاقه القادة في 19 يونيو1929م في سيدي ارحومه. ورأس الوفد الإيطالي بادوليونفسه، الرجل الثاني بعد بنيتو موسليني،ونائبه سيشليانو، ولكن لم يكن الغرض هوالتفاوض، ولكن المماطلة وشراء الوقت لتلتقط قواتهم أنفاسها، وقصد الغزاة الغدر به والدس عليه وتأليب أنصاره والأهالي وفتنة الملتفين حوله. فلم تنجح المساعي وانتهت فترة الهدوء والهدنة التي سادت بين المجاهدين والطليان ما بين مارس ونوفمبر من عام 1929م، وعاد عمر المختار ورجاله لرسالتهم الجهادية، وإيطاليا إلي عنجهيتها في التعامل معهم.ولكن سرعان ما بدت ترتقي أرواح إخوان عمر المختار القادة إلي باريها. ففي 20 سبتمبر 1929م استشهد الفضيل بوعمر، وكان فراقه ضربة مؤلمة للمجاهدين، وبذلك فقد عمر المختار رفيقاً في الدرب وعوناً في الكرب.وبالرغم من نصب المشانق وفتح المعتقلات والسجون وعزل المنتجعات عن المجاهدين، وبالرغم من إحاطة الأهلين بالأسلاك الشائكة المكهربة، وبالرغم من استعمال الطائرات والمدافع والقنابل ذات الغاز السام المحرمة دولياً، وصرخات غراتسياني وتهديداته للشعب الليبي بقوله"عندي لكم ثلاث حالات، الباخرة الموجودة في الميناء( أي النفي إلي الجزر الإيطالية النائية) وأربعة أمتار فوق الأرض (المشنقة) ورصاص بنادق جندنا (الإعدام رمياًبالرصاص)". وكرر ذلك الحاكم العام لليبيا بادوليو بالتأكيد فقال "سأدمر كل شئ … الرجال والمصالح". وبالرغم من كل ذلك لم يتزحزح عمر المختار قيد أنملة ووقف كالعملاق في وجه غراتسياني وجيوشه المرتزقة التي أتى بها من إريتريا والصومال، عدا الإيطاليين أنفسهم. وحار غراتسياني في عمر المختار وإخوانه المجاهدين الذين لم تؤثر فيهم هذه الاحتياطات كلها، علماً أن ايطاليا جهزت لكل مجاهد ليبي عشر مقاتلين من رجالها ومع ذلك كلفتها قرابة الربع مليون قتيل وفقيد إيطالي و16 مليار فرنك قديم مما أنهك ايطاليا عسكرياً ومعنويا. فاستسلم غراتسياني لليأس. وهذا اليأس دفعه إلي الحقد على عمر المختار، فأصبح كل أمله أن يموت هذا الشيخ الكبير، ثم فكر في القبض على عمر المختار وذلك بحرق غابات الجبل الأخضر، ولكنه لم يتمكن من إتمام مهمته، فأصيب بانهيار عصبي وسافر إلي إيطاليا للاستجمام في نفس الوقت الذي كان عمر المختار يتمتع فيه براحة البال في ظل حلاوة الإيمان. ورجع شيخنا رغم تقدم السن به إلى سفوح الجبل الأخضر وظهور الجياد يقاتل ويجالد وكثيراً ما كان يهتزج عند لقاء العدوويقول مغنياً :
جيتو في عيد ويوم سعيد إن عشت سعيد وإن مت شهيد
وفي معركة السانية في شهر أكتوبر عام 1930م سقطت من الشيخ عمر المختار نظارته، وعندما وجدها أحد جنود الطليان وأوصلها لقيادته، فرائها غراتسياني فقال: "الآن أصبحت لدينا النظارة، وسيتبعها الرأس يوماً ما".وفي 11 سبتمبر من عام 1931م، وبينما كان الشيخ عمر المختار يستطلع منطقة سلنطة في كوكبة من فرسانه، عرفت الحاميات الإيطالية بمكانه فأرسلت قوات لحصاره ولحقها تعزيزات، واشتبك الفريقين في وادي بوطاقة ورجحت الكفة للعدوفأمر عمر المختار بفك الطوق والتفرق، ولكن قُتلت فرسه تحته وسقطت على يده مما شل حركته نهائياً. فلم يتمكن من تخليص نفسه ولم يستطع تناول بندقيته ليدافع عن نفسه، فسرعان ماحاصره العدومن كل الجهات وتعرفوا على شخصيته،فنقل على الفور إلي مرسى سوسه ومن ثم وضع على طراد الذي نقله رأسا إلي بنغازي حيث أودع السجن الكبير بمنطقة سيدي اخريبيش. ولم يستطع الطليان نقل الشيخ براً لخوفهم من تعرض المجاهدين لهم في محاولة لتخليص قائدهم.

وكان غراتسياني في روما حينها كئيباً حزيناً منهار الأعصاب في طريقه إلي باريس للاستجمام والراحة تهرباً من الساحة بعد فشله في القضاء على المجاهدين في برقة، حيث بدأت الأقلام اللاذعة في إيطاليا تنال منه والانتقادات المرة تأتيه من رفاقه مشككة في مقدرته على إدارة الصراع. وإذا بالقدر يلعب دوره ويتلقى برقية مستعجلة من نغازي مفادها إن عدوه اللدود عمر المختار وراء القضبان. فأصيب غراتسياني بحالة هستيرية كاد لا يصدق الخبر. فتارة يجلس على مقعده وتارة يقوم، وأخرى يخرج متمشياً على قدميه محدثاً نفسه بصوت عال، ويشير بيديه ويقول: "صحيح قبضوا على عمر المختار ؟ ويرد على نفسه لا، لا اعتقد." ولم يسترح باله فقرر إلغاء أجازته واستقل طائرة خاصة وهبط ببنغازي في نفس اليوم وطلب إحضار عمر المختار إلي مكتبه لكي يراه بأم عينيه. 
يذكر غراتسياني في الحديث مع عمر المختار في كتابه (( برقة المهداة )): عندما حضر امام مكتبي تهيا لي أن أرى فيه شخصية الاف (( المرابطين )) الذين التقيتهم اثناء قيامي بالحروب الصحراوية ... يداه مكبلتان بالسلاسل رغم الكسور والجروح التى اصيب بها اثناء المعركة وكان وجهه مضغوطا لانه كان مغطى راسه بالجرد ويجر نفسه بصعوبة نتيجة الاعياء والخلاصة تخيل لى أن الذى يقف أمامي رجل ليس ككل الرجال له منظره وهيبته رغم انه يشعر بمرارة الاسير.وفي 15 سبتمبر 1931م دار حوار بين الشيخ عمر المختار وغراتسياني في مكتبه يطول شرحه، وأجاب الشيخ برباطة جأش عن جميع الأسئلة منها :

غراتسياني: لماذا حاربت بشدة متواصلة الحكومة لفاشستية ؟ 
أجاب الشيخ: من أجل ديني ووطني. 

غراتسياني:ما الذي كان في اعتقادك الوصول إليه ؟ 
فأجاب الشيخ: لا شئ إلا طردكم … لأنكم مغتصبون، أما الحرب فهي فرض علينا وما النصر إلا من عند الله. غراتسياني: لما لك من نفوذ وجاه، في كم يوم يمكنك إن تأمر الثوار بأن يخضعوا لحكمنا ويسلموا أسلحتهم ؟. فأجاب الشيخ: لا يمكنني أن أعمل أي شئ … وبدون جدوى نحن الثوار سبق أن أقسمنا أن نموت كلنا الواحد بعد الأخر، ولا نسلم أو نلقي السلاح…
ويتطرد غريستاني في كتابه المذكور: عندما وقف ليتهيا للانصراف كان جبينه وضاء وكان له هالة من نور تحيط به فارتعش قلبي من جلاله الموقف أنا الذى خاض معارك الحروب العالمية والصحراوية ولقبت باسد الصحراء ... ورغم هذا فقد كانت شفتاي
ترتعشان ولم استطع أن انطق بحرف واحد فانهيت المقابلة وأمرت بأرجاعه الى السجن وتقديمه الى المحاكمة في مساء ذلك اليوم ...
عند وقوفه حاول أن يصافحني ولكنه لم يتمكن لان يديه كانت مكبلتين بالحديد .وانتهت تلك المقابلة الرهيبة التي سجل غراتسياني فيها مدى إعجابه وتقديره لعمر المختار في مذكراته، فقال "لقد خرج من مكتبي كما دخل منه وأنا انظر أليه بكل إعجاب وتقدير".
وعقدت له محكمة هزلية صورية في مركز إدارة الحزب لفاشستي ببنغازي مساء يوم الثلاثاء عند الساعة الخامسة والربع في 15 سبتمبر 1931م، ونسرد هنا مقتطفات من محضر المناقشة التي دارت بين المجاهد عمر المختار الذي قاد المقاومة الليبية ضد جيوش الفاشست الطليان وهيئة المحكمة الايطالية الفاشية.
بعد الاعلان عن افتتاح الجلسة طلب المحامي بيدنيو وهو في نفس الوقت وكيل النيابة بكلمة ليذكر الجميع بأن هذا اليوم 15 سبتمبر 1931 مسيحي يصادف ذكرى ميلاد صاحب السمو الملكي أمير "بييمونتي" حيث دعى الحضور الى الهتاف بأعلى أصواتهم .. قام الجميع وهم يرددون الهتاف .. وبعد عودة السكون دعى المترجم الى أداء اليمين القانونية ، ثم طلب رئيس المحكمة (العقيد مارينوني) من (المتهم) عمر المختار الادلاء ببيانات هويته فقال : 
إسمي عمر المختار وابلغ من العمر 74 سنة وانه رئيس دور ... سأله رئيس المحكمة إن كانت له أي احكام جنائية سابقة فرد بالنفي .. 
وبعد ذلك تلى كاتب الجلسة الملازم (ديه كريستاوفانو) صحيفة الاتهام .. حيث تدخل المناقشة في صميم القضية :الرئيس : انت قاتلت ضد من ؟عمر المختار : قاتلت ضد الحكومة الايطالية . الرئيس : في كم معركة اشتركت ؟عمر المختار معارك كثيرة لاأستطيع حصرها ، وحتى المعارك التي لم اشارك فيها كان خوضها بأمري . الرئيس : واطلقت انت النار ايضاً ؟عمر المختار : نعم مرات عديده .الرئيس : هل أعطيت الامر بقتل الملازم "بناتي"؟عمر المختار : كان قد قبض عليه ومكث بضع ايام في الاسر وذات يوم اقتربت قوات الحكومة الايطالية من المكان الذي كان معتقلاً به وانا كنت غير موجود فقتلوه .. فالحرب هي الحرب وانا لا أعلم حتى اين دفن . الرئيس : هل اصدرت الامر بقتل جميع الاسرى ؟عمر المختار : الحرب حرب . الرئيس : كيف القي القبض عليك ؟عمر المختار : نشب القتال بالقرب من الزاوية البيضاء .. أصبت بجراح وهويت من على صهوة الجواد ، الذي قتل ، ومن تم قبض على جنود الحكومة ؟الرئيس : هل افضيت اليهم بأسمك؟عمر المختار : نطقت به في الحال . الرئيس : هل كانت معك بندقية ؟عمر المختار : كانت معي بندقية وستة مخازن . النقيب لونتانو عضو هيئة المحكمة : هل تقاضيت من الحكومة الايطالية في أي وقت من الاوقات مرتباً ؟عمر المختار : كلا ... أبداً . 

وبعد ساعة حديداً صدر منطوق الحكم بالإعدام شنقاً حتى الموت، وعندما ترجم له الحكم، قال الشيخ "إن الحكم إلا لله … لا حكمكم المزيف ... إن لله وإن أليه راجعون". 
وفي صباح وم الأربعاء، 16 سبتمبر 931م، اتخذت جميع التدابيراللازمة بمركز سلوق لتنفيذ الحكم بإحضار جميع أقسام لجيش والميليشيا والطيران، واحضر 20 ألف من الأهالي وجميع المعتقلين السياسيين خصيصاً من أماكن مختلفة لمشاهدة تنفيذ الحكم في قائدهم. واحضر الشيخ عمر المختار مكبل الأيدي، وعلى وجه ابتسامة الرضا بالقضاء والقدر، وبدأت الطائرات تحلق في الفضاء فوق المعتقلين بأزيز مجلجل حتى لا يتمكن عمر المختار من مخاطبتهم، وفي تمام الساعة التاسعة صباحاً سلم الشيخ إلي الجلاد، وكان وجهه يتهلل استبشاراً بالشهادة وكله ثبات وهدوء، فوضع حبل المشنقة في عنقه، وقيل عن بعض الناس الذين كان على مقربة منه انه كان يأذن في صوت خافت آذان الصلاة، والبعض قال انه تمتم بالآية الكريمة "يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية" ليجعلها مسك ختام حياته البطولية. وبعد دقائق صعدت روحه الطاهرة النقية إلي ربها تشكوأليه عنت الظالمين وجور المستعمرين.وسبق إعدام الشيخ أوامر شديدة الطبيعة بتعذيب وضرب كل من يبدي الحزن أويظهر البكاء عند إعدام عمر المختار، فقد ضرب جربوع عبد الجليل ضرباً مبرحاً بسبب بكائه عند إعدام عمر المختار. ولكن علت أصوات الاحتجاج ولم تكبحها سياط الطليان، فصرخت فاطمة داروها العبارية وندبت فجيعة الوطن عندما على الشيخ شامخاً مشنوقاً، ووصفها الطليان "بالمرأة التي كسرت جدار الصمت". وحزنت الأمة حزناً شديداً على فقيدها، ورأت القيادة أن تكتب إلي قيادتها السياسية والروحية في المهجر، فبعث الشيخ يوسف بورحيل المسماري،نائب عمر المختار، رسالة عاجلة إلى السيد أحمد الشريف الذي كان بالمدينة المنورة يسأله فيها تعيين قائداً للجهاد فوراً حتى لا ينحرف الخط الجهادي لا سمح الله.فكان رد السيد احمد الشريف سريع وحاسم في رسالة مطولة إلي الشيخ عبد الحميدالعبار وبقية المجاهدين جاء فيها:"… إننا لن نغفل عنكم وقت من الأوقات من الدعاء لكم عند بيت الله الحرام، وفي حضرة مولانا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعلى الله القبول، إنه أكرم مسئول، وخير مأمول، هذا وأنه بلغنا ما أزعجنا وكدرناغاية الكدر، وهواستشهاد حضرة النائب العام سيدي عمرالمختار رحمه الله ورضي عنه وجعل جنة الفردوس الأعلى مسكنه ومحله، وجزاه الله عنا وعن الإسلام أحسن الجزاء، فإنه كان عاملاً صادقاً ناصحاً، وأننا لم نتكدر على نيله للشهادة بل نحمد الله على ذلك ولا نقول أنه مات، بل إنه حي لقول الله (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء) وإنما كدرنا فقدانه من بينكم وغيابه عنكم، ولكن هذا أمر الله الذي يفعل ما يشاء … ولا نقول إلا ما يقوله الصابرون، إنا لله وإنا إليه راجعون. نعم استشهد سيدي عمر المختار ولكنه أبقى العمل الطيب والذكر الحسن. فهذا ليس بميت ولن يموت أبداً، ما دامت الدنيا لأنه شهيد لقوله تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء ..)، فالله الله يا أولادي في التمسك، وإياكم واليأس، إياكم والقنوط، إياكم وأقاويل الناس الفاسدة،فجدوا واجتهدوا كما كنتم، واجعلوا عملكم لله وحده، لأنه لنا ولا لغيرنا، لأن من قاتل لله، فالله حي باقي، ومن قاتل لغير الله فعمله لا يفيده شيئاً، واعلموا إن الله معكم … واصبروا وصابروا واعلموا إن العاقبة للمتقين، وأن الله مخزي الكافرين، وما ترونه من الأهوال، فإنه والله ثم والله زائل عن قريب وسترون ما يسركم دنيا وأخرى، ففي الدنيا سترون بحول الله العز والنصر الذي لا يخطر على بال، وفي الآخرة رضاء الله ورسوله والنعيم المقيم، فأنتم في الخير أحياء وأمواتاً. وها نحن نوبنا عنا عليكم حضرة أخيكم المجاهد الغيور الصادق، ولدنا الشيخ يوسف بورحيل … ونحن ما قدمناه إلا بتقديم سيدي عمر له في حياته، فامتثلوا أمره واسمعوا كلامه، وكونوا له عوناً معيناً …فلا تروه إلا بالعين التي تروننا بها، وبذلك يتم بالله أمركم، وتجتمع كلمتكم وتقهرون عدوكم، وإياكم ثم إياكم والمخالفة والنزاع … واعلموا يا أولادي أن العدوخيبه الله ساعي بكل جهده للقضاء عليكم … فجدوا في عملكم، واصبروا وابشروا بالنصر والفتح ولا تيأسوا من روح الله … وإني والله ثم والله ما يمنعني من الوصول إليكم إلا عدم الطريق، ولكن بحول الله، لازلت مجتهداً بكل جهدي في وصولي إليكم وعن قريب يتم ذلك بحول الله وقوته، هذا وسلموا لنا على عموم أولادنا المجاهدين، والباري يحفظكم وينصركم و يجمعنا بكم عن قريب …".كان العرب خاصة والمسلمون عامة يتابعون، مع نزر المعلومات وشح الأخبار، جهاد عمر المختار ورفاقه في ليبيا. ولكن صُعقت الأمة بوحشية إيطاليا في تنفيذ حكم الإعدام بعمر المختار وهوفي العقد الثامن من عمره. وهاج الشارع العربي وماج مع صمت رهيب مريب في الدوائر والمؤسسات الرسمية العربية. فامتعض الشارع العربي في مصر وسوريا وتونس والمغرب والجزائر والعراق. حيث أقيمت المآتم، وخرجوا في المظاهرات وطافت شوارع المدن، وأغلقت المتاجر ودعا الخطباء إلي مقاطعة البضائع الإيطالية وظهر الشارع العربي بمظهر الحداد على هذا الرجل العصامي، حتى على الفلاح في كوخه والمزارع في حقله، ونقلت الصحف النزيهة الحرة تلك الاحتجاجات، وقرض أعلام الشعر القصائد رثاءً لعمر المختار وأبطال الجهاد في ليبيا، وصُليت عليه صلاة الغائب في المسجد الأقصى في فلسطين وجامع بني أمية في سوريا، وكذلك تلاحمت الحوزة الشيعية بالكاظمية في العراق مع جهاد عمر المختار واستشهاده.ولكن أكبر الأصداء وأبرز الدوي كان في فلسطين مهد الرباط والجهاد. فلنستعرض ما حدث في فلسطين المجاهدة، كعينة للغضب العربي. فعندما وصل خبر إعدام عمر المختار، لان المدة ما بين القبض عليه ومحاكمته وإعدامه لم تتجاوز الخمسة أيام، هاج الشعب الفلسطيني، الذي هونفسه يقارع قوى الشر والطغيان المتمثلة في الصهيونية العالمية والإمبريالية الغربية، فطالب علماء وأعيان فلسطين أن يسلم جثمان عمر المختار لهم لكي يدفن بالقدس تبركاً وتيمناً به كمجاهد صادق غيور. فيقول مفتي القدس وإمام المسجد الأقصى صاحب الفضيلة الشيخ محمد أمين الحسيني : " .. مما يثير في النفس كوامن الأسى، ويبعث علي أشد الأسف، أن العرب والمسلمين خذلوا هذا البطل الكرار عمر المختار ، الذي ليس له نظير في صدق جهاده وعظيم بلائه إلا المجاهدون الأولون في صدر الإسلام، فلم يساعدوه بمال، ولا أمدوه برجال، كما هوديدنهم في العهود الأخيرة في خذل المخلصين من المصلحين المجاهدين، وكما خذلوا مجاهدي فلسطين عند احتدام المعارك بينهم وبين اليهود عام 1948م … وقد لحق عمر المختار بقافلة الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. ولقد كان لإعدامه رحمه الله أعظم تأثير في نفوس المسلمين والعرب فقامت عليه المآتم في كثير من الأقطار العربية والإسلامية. وأذاع مكتب المؤتمر الإسلامي العام في القدس نداء إلي سائر الأقطار الإسلامية لإقامة صلاة الغائب عليه والاحتجاج على إعدامه، وقد صلينا عليه في المسجد الأقصى المبارك، كما صلى عليه في جميع مساجد فلسطين، وغيرها من المساجد في سوريا ومصر، وسمت بعض مدن فلسطين كشافة مدارسها باسم "كشافة عمر المختار"، كما أن مدينة غزة الفلسطينية عملت على أحياء اسمه فسمت أكبر شارع فيها باسم "شارع عمر المختار" ولما اعترض على ذلك الحاكم الإنجليزي بناء على احتجاج القنصل الإيطالي: أجابه رئيس بلدية غزة حينئذ المرحوم السيد فهمي الحسيني بكتاب جاء فيه: … كما سمحتم لبلدية تل أبيب بتمجيد اسم هرتزل وبالفور، فان لبلدية غزة كل الحق في تمجيد ذكر البطل الشهيد عمر المختار، فإذا كانت ذكراه تسئ إلى إيطاليا، فذلك ما اقترفته هي". ويجدر بالذكر إن الشعب الفلسطيني لازال يتغنى بجهاد عمر المختار، فان إحدى السرايا المقاتلة في فلسطين (2002م) مسماة سرية عمر المختار وهي لازالت تثخن بالصهاينة اليهود حتى هذه الساعة.وخير ما نختم به سيرة هذا البطل الأسطوري هي بعض المختارات الشعرية، وهي عبارة عن مقتطفات من قصائد فحول شعر الفصحى التي قيلت تأبيناً في الشهيد عمر المختار من عدة أقطار عربية:

ركزوا رفـاتك في الرمال لـواء
يستنهض الوادي صباح مساء
يا ويـحهم: نصبوا مناراً من دم
توحي إلي جيل الغد البغضــاء
ما ضر لوجعلوا العلاقة في غدٍ
بين الشـــعوب مودةً وإخــــــاء
* * *
خيرت فاخترت المبيت على الطوى
لم تبن جــــاهاً أوتلم ثـــــــراء
أن البطولة أن تـموت من الظما
ليس البطولة أن تعــبّ المــــاء
أفريقيا مهد الأسـود و لـحدها
ضجت عليـك أراجلاً ونســـــاء
والمسلمون على اختلاف ديارهم
لا يملكون مع المصـــاب عزاء 

..
أمير الشعراء أحمد شوقي- مصر
******

شاعر القطرين خليل مطران – لبنان


أبيت والسيف يعلوالرأس تسليماً
وجدت بالروح جود الحر إن ضيما
تذكر العرب والأحداث منسية
ما كان، إذ ملــــكوا الدنيا لهم خيما
لله يا عـمر الـمختار حكمته
في إن تلاقي ما لاقيت مظـــــــلوما
*******


ألا انهض وشمر أيها الشرق للحرب
وقبل غرار السيف واسل هوى الكتب
ولا تغترر أن قيل عصـر تـمـدن
فإن الذي قـالوه من أكـــذب الكــــذب
ألست تراهم بين مصر وتـونــس
أبـاحوا حمى الإسلام بالقتل والنـهب
وما يؤخذ الطليان بالذنب وحدهم 
ولكن جميع الغــــرب يـؤخذ بالذنــب

أمير القوافي معروف الرصافي – العراق
*******


مضى عمر المختار لله رافـلاً
بثوبٍ نقي حيـــك من خالــــص الطــــهر
مضى عمر المختار لله بعدما
قضى الواجب الأسمى بأعلى ذرى الفخر
مضى عمر المختار لله هـانئاً
سعيداً شهيداً وانطـــوت صفــــحة العمر
مـخلفةً للعالـمين مـآثراً
هي الغـرر البيضـــاء في جبـــهة الدهـر
ومن دمه المسفوك سطر آية
سيحـفظـهـا التـــاريخ بالحمـــد والشــكر
شاعر الشباب - محمود بورقيبة- تونس

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

جميع الحقوق محفوظة

خواطــر ليبي

2016